"نشأة المولى عبد الرحمان بن هشام العلوي"
الجزء الأول...
ولد عبد الرحمان بن هشام في فاس سنة 1204 هجرية مقابل سنة 1789 توفي في مكناس سنة 1859 السلطان المغرب الرابع عشر من سلالة العلويين، حكم المغرب في الفترة ما بين 1822 إلى 1859، لقد كان المولى عبد الرحمان بن هشام منذ نشأ وهو متمسك بالتقوى والعدل والعفاف متصف بالصيانة وجميل الأوصاف من الانقباض من الخلق وملازمة العبادة والصوم وقيام الليل وترك ما لا يعني والجد في الأمور كلها حتى عرفت له هذه التنشئة وتطابقت على حبه ومدحه القلوب والألسنة([1]).
حيث وصفه العلامة الناسك المرشد الشيخ المختار بن محمد بن المختار فيما كتب به إليه يعظه وينصحه به لفظه نخبة الأخبار وخلاصة خاصة الأحرار سلسلة السادات الأبرار وخاتمة القادات ذوي الأقدار منبع الفضل والجود... ([2])، ولما نشأ هذه النشأة الطيبة أقبل عليه عمه السلطان المولى سليمان رحمه الله وضمه إليه واعتنى بشأنه ورفع منزلته حتى علا أولاده، ولما بعث أولاده إلى الحرمين الشريفين يقصد أداء فريضة الحج بعثه في جملتهم فظهر له في تلك السفرة من الورع والدين والتمسك بأسباب اليقين ما رفع قدره وأشاع بالصلاح ذكره وكان السلطان المولى سليمان قد أعطاه بضاعة ينفقها في سفرته تلك ويستعين بها على حجه فلما أب من سفره أتى بالبضاعة إلى عمه وقال له باسيدي هذه البضاعة التي أعطيتني أنها أخذتها لأنفق منها إذا نفذ ما عندي، وكانت معي بضاعة جمعتها بقصد إنفاقها في هذه الوجهة ولم أرد أن أخلطها بغيرها وقد حصلت الكفاية بها والحمد لله([3])، فعجب عمه من شأنه وازداد محبة وغبطة فيه ورد له البضاعة وطيبها له ودعا له بخير وكان في أول أمره مقيما بتافيلالت ثم استقدمه السلطان المولى سليمان في آخر عمره وولاه بثغر الصويرة وأعمالها فقام بذلك أحسن قيام ثم استقدمه منها في فتنة ابني يزيد كما مر واستخلفه على حاضرة المغرب وأمر أمصاره مدينة فاس فقرت بولاية العيون وطابت الأنفاس كل ذلك فعله به ترشيحا للأمر وتقديما له فيه على زيد وعمرو([4]).
تلقى مولاي عبد الرحمان بن هشام بمجرد وفاة عمه ببيعة أهل فاس وبيت الأودايا بها وسائر فرق الجيش النظامي واعتبر أكتسوس عهد مولاي سليمان إلى ابن أخيه بالخلافة أكبر حسنة سجلها الملك الراحل وكان مولاي عبد الرحمان خليفة بفاس وقت وفاة مولاي سليمان، وقد سبق أن تولى مولاي عبد الرحمان بن هشام منصبا مماثلا بالصويرة حيث كانت مسؤولية تشمل أيضا الإشراف على الشؤون المالية والجبائية والجمركية بالمنطقة وقد مكنه ذلك من التمرس بالشؤون والعودة إلى إحداث أمكاس جديدة وإحياء أخرى قديمة، وعندما كان مولاي سليمان يجابه اضطرابات الشمال استقدمه من الصويرة على رأس فريق من الجيش لمساعدته ثم رافق مولاي سليمان إلى فاس سنة 1821م لإخماد القلاقل التي نشأت على إثر مشايعة فاس للأمير السعيد ابن اليزيد بعد موت أخيه إبراهيم بن اليزيد([5])، وقام مولاي عبد الرحمان بدور الوسيط في استسلام السعيد وحصوله على عفو العاهل وبمجرد عودة فاس إلى بيعة مولاي سليمان وتهدئة الأوضاع عين مولاي عبد الرحمان خليفة بها في أواخر رجب من العالم المذكور، وما لبث مولاي سليمان بعد التحاقه بمراكش أن أصيب بمرض وفاته فعبر غير مرة عن رغبته في التنازل عن العرش وإسناد الولاية لابن أخيه مولاي عبد الرحمان إلا أن حرر عهده النهائي المذكور في أحداث وفاته كما سبق([6]). إذ نادرا ما يذكر التاريخ سلطانا مغربيا أعلن بمحض إرادته رغبته في التخلي عن العرش لكن المولى سليمان الذي حكم المغرب بين سنتين 1792 و 1822، فعل ذلك بعدما أتعبته شؤون الحكم فأعلن أنه ينوي التخلي عن الحكم لصالح ابن أخيه المولى عبد الرحمان الذي كان يراه الأصلح لهذا الأمر، يقول أحمد بن خالد الناصري في كتابه الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى: «وقد كان أمير المؤمنين المولى سليمان رحمه الله في هذه المدة قد سئم الحياة ومل العيش وأراد أن يترك أمر الناس لابن أخيه المولى عبد الرحمان بن هشام، وقد عرفت فترة حكمه بالثورات والفتن والقلاقل خصوصا سياسة الإنغلاق([7])، وقد مكث هذا الأخير في الملك ثمان وعشرين سنة ظل فيها ملكا محبوبا من أهل فاس إلى أن أسلم الأمر لابن أخيه الأمير مولاي عبد الرحمن الذي امتد حكمه من سنة 1822 إلى 1859م([8]).
ثم كانت وفاة السلطان عقب ذلك فوصل خبر وفاته إلى فاس في السادس والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف مقابل 11 دجنبر 1822م، فحضر القاضي الشريف المولى أحمد بن عبد الملك والعلامة المفتي أبو عبد الله ومحمد بن إبراهيم والتاجر الأمين الحاج ابن جلون وسائر أعيان فاس من العلماء والأشراف وغيرهم، وحضر أعيان الودايا وقوادهم، ولما قرئ العهد ترحموا على السلطان المولى سليمان وبايعوا للسلطان عبد الرحمان وسلموا عليه بالخلافة وثم أمره وسر الناس بذلك خاصة وعامة ثم ترادفت على حضرته بيعة أهل الديوان وسائر الجنود وحل من الملك العزيز في فلك السعود وكتبت البشائر بذلك إلى البلدان فوقدت بيعات أهل الأمصار وهداياهم، ولم يتوقف عن هذه البيعة الشرعية أحد منهم واستبشر أهل المغرب بولايته وبان لهم مصداق يمنه وسعادته بتوالي الأمطار ورخص الأسعار والعافية أناء الليل وأطراف النهار، ولم تمت هذه البيعة المباركة وحصل ما ذكرنا من الأمن والعافية وحسن الحال([9]).
وبعد تمام البيعة خرج للعاصمة المكناسية وكانت تعجبه فرأى من تلاشي الجيش البخاري بها ما أهمه ولم يزل يعالج أمره حتى أنعشه وأمده بالخيل والسلاح ورتب له الرواتب الشهرية بعد أن تمت له البيعة بالعاصمة المكناسية يوم الأحد الرابع عشر من ربيع الثاني وسبب تأخر بيعة أهل مكناس ما كان من المخالفة والشقاق بين قاضيها أبي العباس أحمد بن عبد الملك مار الترجمة وبين عبيد البخاري على ما قرأته بخط أبي العباسي الأغزاوي المترجم فيما سلف قال حتى هم العبيد بقتل القاضي وما منعهم من ذلك إلا الشرفاء وأقام المترجم بفاس بعدها البيعة له سنتين([10]).
وبعد أن تمت له البيعة في فاس والرباط ومكناس تمت له بيعة البربر، وقد تقدم لنا أن البربر بعد وقعة جيان اتفقوا على مناوأة السلطان ومنابذته وأنهم صاروا يدا بيد عليه وعلى كل من تكلم بالعربية بالمغرب، فلما توفي السلطان المولى عبد الرحمان زاد البربر ذلك الحلف توكيدا أو شدة وأعدوا لعصيانهم واعوجاجهم أكمل عدة لاسيما رئيسهم الحاج محمد بن الغاوي الزموري فإنه لما فعل فعلته في وقعة جيان من جرة الهزيمة على المولى سليمان، ثم عززها بأختها من بيعته للمولى إبراهيم بن يزيد فيها بالقريب والبعيد خاف أن يأخذه بذلك من تأتي بعده من بني أبيه وعشيرته فجد في صرف وجوه البربر من السلطان واستعان في ذلك يأبى بكرمهاوش([11]). فروض له رؤساء البربر حتى اجتمعت كلمتهم على أن لا يتركوا بأرض المغرب ذكرا للسلطان وحزبه، وربما شايعهم على ذلك بعد غواة العرب مثل الصفاقعة والتوازيط من بني حسن وزعير وجل عرب تادلا فلما أراد الله سبحانه نقض ما أبرموا ونشر ما جمعوا من ذلك ونظموا جعل لذلك سببا وهو أن الشيخ أبا عبد الله الدرقاوي كان مسجونا عند الودايا كما تقدم في أخبار فتنة ابن يزيد واستمر في الجيش إلى أن بويع المولى عبد الرحمان، وكان ابن الغازي من أصحاب الشيخ المذكور وبمن له فيه اعتقاد كبير فوفد إليه أولاد الشيخ ونزلوا عليه لكي يسعى في تسريح والدهم وألحوا عليه فلم يجد بدا من إظهار الطاعة للسلطان والدخول في الجماعة فوفد على السلطان في جمع من وجوه قومه بهديهم وبيعتهم.
فلما رأى باقي البربر الذي حالفوه من أيت أدارسن وبروان أنه قدم على السلطان ظهر لهم خيانتهم فنبذوا ذلك العهد وسارعوا إلى بيعة السلطان وخدمته بأموالهم وأنفسهم...، ثم أن السلطان زوج ابن الغازي بإحدى حظايا عمه السلطان المرحوم وهي ابنة القائد عمر بن أبي سنة واطمأن إلى السلطان([12]).
ولما فرغ السلطان المولى عبد الرحمان رحمه الله من أمر الوفود والتهاني بحضرة فاس التفت إلى النظر في أحوال رعيته تثقيف أطراف المملكة فولى على فاس وصيفه أبا جمعة بن سالم سيدي محمد ابن الطيب ثم نهض من فاس الجديد بقصد تفقد المملكة، فجعل طريقه على بلاد سفيان وسار حتى وصل إلى قصر كتامة وعسكر هناك بالكدية الإسماعيلية وبها وفد عليه المولى عبد السلام ابن السلطان المولى سليمان رحمه الله في جماعة من الأشراف والكتاب فيهم أبو عبد الله أكنسوس([13])، وكان المولى عبد السلام المذكور قد قدم من تافيلالت إلى مراكش عقب وفاة والده بقصد أخذ البيعة بتافيلالت وأعطوه صفقة إيمانهم فلما صادف المولى عبد السلام الأمر قد تم للسلطان المولى عبد الرحمان واجتمعت كلمة أهل المغرب عليه، قال أكنسوس لما قدمنا على السلطان المولى عبد الرحمان من مراكش إلى قصر كتامة أمر بإدخالي عليه لشدة تشوفه إلى أخبار السلطان المولى عبد الرحمان من مراكش إلى قصر كتامة أمر بإدخالي عليه لشدة تشوفه إلى أخبار السلطان المولى سليمان فدخلت عليه وجلست بين يديه نحو ساعتين وسألني عن كل شاذة وفادة، ثم دخلت عليه بعد صلاة المغرب وسألني عن بقية الأخبار ثم ذكر أولاد عمه السلطان المرحوم وقا والله لا يرون مني إلا الخير، ثم بعد يومين أو ثلاثة نهض إلى رباط الفتح فاستقر بها ثم وفدت عليه قبائل الحوز ورؤساؤها فعيد هناك عبد الفطر من سنة 1238هـ الموافق لسنة 1822م، ثم رجع إلى فاس ومعه أعيان قبائل الحوز الذين وفدوا عليه ولم احتل فاس قدم عليه عمه المولى موسى بن محمد مع جماعة من أهل مراكش وفيهم المولى عبد الواحد بن سليمان السابع بسجلماسة فأكرمهم وأجلهم([14])، وبذلك بعد أن تسلم مقاليد الحكم في المغرب خلفا للملك المرحوم مولاي سليمان وتمت له البيعة قام بجولة تفقدية حول أحوال البلاد والعباد.
[1]- أحمد بن خالد الناصري السلاوي: "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"، الجزء الثامن، منشورات وزارة الثقافة والاتصال سنة 2001، ص.9.
[2]- عبد الرحمان بن زيدان: "إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس"، الجزء الخامس، توزيع دار الأمان، الناشر مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ص.7.
[3]- الناصري، المصدر السابق، الجزء الثامن، ص.9.
[4]- نفسه، ص.9.
[5]- إبراهيم حركات: "المغرب عبر التاريخ"، الجزء الثالث، نشر وتوزيع دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، ص.174.
[6]- عبد الرحمان بن زيدان: "الدرر الفاخرة بمآثر الملوك العلويين بفاس الزهرة"، المطبعة الاقتصادية بالرباط، ص.99.
[7]- نفسه، ص.100.
[8]- أبي العلاء إدريس: "مخطوط الابتسام عن دولة ابن هشام"، ص.108.
[9]- الناصري: المصدر السابق، الجزء الثامن، ص.10.
[10]- نفسه، ص.17-20.
[11]- الناصري، المصدر السابق، ص.14.
[12]- نفسه، ص.14.
[13]- حركات إبراهيم، المرجع السابق، ص.14.
[14]- نفسه، ص.14-15.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق